فصل: (الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ وَلَا يُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(بَابُ الْجَعَالَةِ):

الْجَعَالَةُ:- بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ- كَمَا أَفَادَهُ ابْنُ مَالِكٍ، يُقَالُ جَعَلْتُ لَهُ جُعْلًا أَوْجَبْتُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْجُعْلُ وَالْجَعَالَةُ وَالْجَعِيلَة: مَا يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ عَلَى أَمْرٍ يَفْعَلُهُ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وَكَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ كَالْوَسْقِ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ. وَحَدِيثُ اللَّدِيغِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِالْعَمَلِ، فَاقْتَضَتْ جَوَازَ ذَلِكَ. وَشَرْعًا (جُعْلٌ)- أَيْ: تَسْمِيَتُهُ- (مَالٌ مَعْلُومٌ كَأُجْرَةٍ) بِالرُّؤْيَةِ وَالْوَصْفِ، و(لَا) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا إنْ كَانَ (مِنْ مَالِ مُحَارِبٍ)- أَيْ: حَرْبِيٍّ- فَيَصِحُّ مَجْهُولًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ. (وَيَتَّجِهُ) صِحَّةُ الْجَعَالَةِ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ؛ كَقَوْلِ شَخْصٍ لِآخَرَ: (بِعْ ثَوْبِي بِكَذَا) دِرْهَمٍ (فَمَا زَادَ) عَمَّا عَيْنَته لَكَ مِنْ الثَّمَنِ فَهُوَ (لَكَ)، وَهَذَا؟ الِاتِّجَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَى احْتِمَالِ مَرْجُوحٍ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَجُوزَ الْجَعَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ؛ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ نِصْفُهُ، وَمَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ جَازَ، وَقَالُوا: إذَا جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ، وَكَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَال الْكُفَّارِ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا كَجَارِيَةٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِلُ؛ فَيَخْرُجُ هَا هُنَا مِثْلُهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ؛ لَمْ تَصِحَّ الْجَعَالَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، (لِمَنْ يَعْمَلُ) مُتَعَلِّقٌ بِجُعْلٍ لَهُ- أَيْ: الْجَاعِلُ- (عَمَلًا مُبَاحًا) لَا مُحَرَّمًا كَمِزْمَارٍ وَغِنَاءٍ. (وَيَتَّجِهُ لَا) تَصِحُّ الْجَعَالَةُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا (عَبَثًا)؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ (كَسَاعٍ يَقْطَعُ أَيَّامًا فِي يَوْمٍ) وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ تَكْلِيفٌ فَوْقَ الطَّاقَةِ (كَرَفْعٍ ثَقِيلٍ) مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ (وَمَشْيٍ عَلَى حَبْلٍ)؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الشَّارِعُ؛ فَلَا تَنْعَقِدُ الْجَعَالَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِاشْتِرَاطِ الْإِبَاحَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إمَّا أَنْ يَخْشَى فَاعِلُهَا الضَّرَرَ فِي بَدَنِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ خَشِيَ الضَّرَرَ فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ، وَعَلَى كُلٍّ يَكُونُ غَيْرَ مُبَاحٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَوْ) كَانَ الْعَمَلُ (مَجْهُولًا) إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا؛ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ لَمْ يَصِفْهَا، وَرَدِّ لُقَطَةٍ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ جَائِزَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخٌ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ مَجْهُولٌ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ (مَعَ شَخْصٍ) جَائِزِ التَّصَرُّفِ، أَوْ لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ (مُدَّةً، وَلَوْ) كَانَتْ الْمُدَّةُ (مَجْهُولَةً)؛ كَمَنْ حَرَسَ زَرْعِي فَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَيَصِحُّ الْجُعْلُ عَلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، وَعَلَى مَجْهُولٍ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهَا مَجْهُولًا؛ وَالْمُدَّةُ مَجْهُولَةً؛ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجَائِرَةَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ الْمُدَّةُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَعْلَمُ مَوْضِعَ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ لَازِمًا؛ فَلَمْ يُشْتَرَطْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا، وَالْعِوَضُ يَصِيرُ لَازِمًا بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ، فَاشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِهِ انْتَهَى.
وَلَوْ جَعَلَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ (كـَ) أَنْ يَقُولَ: (مَنْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ) فَلَهُ كَذَا، أَوْ مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ، أَوْ إنْ (أَقْرَضَنِي زَيْدٌ بِجَاهِهِ أَلْفًا) فَلَهُ كَذَا؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَهُ مِنْ جَاهِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهُ بِالْقَرْضِ، (أَوْ أَذِنَ بِهَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ فَعَلَهُ مِنْ مَدِينِي)- أَيْ: مِمَّنْ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ- (فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ كَذَا)؛ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ كَوْنِهِ تَعْلِيقًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، لَا تَعْلِيقًا مَحْضًا. (فَمَنْ بَلَغَهُ) الْجُعْلُ (قَبْلَ فِعْلِهِ) الْعَمَلَ الْمَجْعُولَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِوَضُ؛ (اسْتَحَقَّهُ)- أَيْ: الْجُعْلَ (بِهِ) أَيْ: الْعَمَلِ بَعْدُ-؛ لِاسْتِقْرَارِهِ بِتَمَامِ الْعَمَلِ كَالرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ تَلِفَ فَلَهُ مِثْلُ مِثْلَيْ، وَقِيمَةُ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْبِسُ الْعَامِلُ الْعَيْنَ حَتَّى يَأْخُذَهُ (وَ) مَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ (فِي أَثْنَائِهِ)- أَيْ: الْعَمَلِ- فَلَهُ مِنْ الْجُعْلِ (حِصَّةُ تَمَامِهِ)؛ أَيْ: فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْجُعْلِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَمَلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ الْجُعْلَ وَقَعَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَنْهُ عِوَضًا؛ لِبَذْلِهِ مَنَافِعَهُ مُتَبَرِّعًا بِهَا، وَمَحِلُّ ذَلِكَ (إنْ أَتَمَّهُ)- أَيْ: الْعَمَلَ- (بِنِيَّةِ الْجُعْلِ، وَ) لِهَذَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْجُعْلُ إلَّا (بَعْدَهُ)- أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ- (لَمْ يَسْتَحِقَّهُ)- أَيْ: الْجُعْلَ- وَلَا شَيْئًا مِنْهُ لِمَا سَبَقَ، (وَحَرُمَ) عَلَيْهِ (أَخْذُهُ)- أَيْ: الْجُعْلِ- لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، إلَّا إنْ تَبَرَّعَ لَهُ رَبُّهُ بِهِ بَعْدَ إعْلَامِهِ بِالْحَالِ. (وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ) فِي الْمُنْتَظِمِ: يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ إيصَالُ قَصَصِ أَهْلِ الْحَوَائِجِ، (فَإِقَامَةُ مَنْ يَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَى إيصَالِ الْقَصَصِ لِلْوُلَاةِ حَرَامٌ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ، وَلَعَلَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُرِّمَ، وَإِلَّا فَلَا.
(وَ) إنْ قَالَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ لِزَيْدٍ مِثْلًا: (إنْ رَدَدْتُ لُقَطَتِي فَلَكَ ذَلِكَ) فَيَسْتَحِقُّهُ إنْ رَدَّهَا هُوَ، وَ(لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مَنْ رَدَّهَا دُونَهُ)- أَيْ: دُونَ زَيْدٍ- الْمَقُولِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَبَّهَا لَمْ يُجَاعِلْهُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ إنْسَانٍ فَجَعَلَ لَهُ مَالِكُهَا جُعْلًا لِيَرُدَّهَا؛ لَمْ يَبُحْ لَهُ أَخْذُهُ. ذَكَرَهُ فِي الْمُبْدِعِ. (وَالْجَمَاعَةُ) إنْ فَعَلْت الْمُجَاعَلَ عَلَيْهِ (تَقْتَسِمُهُ)- أَيْ: الْجُعْلَ-؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ اُسْتُحِقَّ الْجُعْلُ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: (مَنْ نَقَبَ السُّورَ فَلَهُ دِينَارٌ، فَنَقَبُوهُ)؛ أَيْ: نَقَبَهُ ثَلَاثَةٌ (نَقْبًا وَاحِدًا اسْتَحَقُّوا دِينَارًا) وَاحِدًا بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْعَمَلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِوَضُ، فَاشْتَرَكُوا فِي الْعِوَضِ كَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ.
(وَ) إنْ نَقَبَ (كُلُّ وَاحِدٍ نَقْبًا فَكُلُّ وَاحِدٍ دِينَارًا) كَمَا لَوْ قَالَ: (مَنْ دَخَلَ هَذَا النَّقْبَ فَلَهُ دِينَارٌ، فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ؛ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ) مِنْهُمْ (دِينَارًا)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ دَخَلَ دُخُولًا كَامِلًا كَدُخُولِ الْمُنْفَرِدِ، فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَامِلًا. وَ(لَوْ) فَاوَتَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ الْعَامِلِينَ، (فَجَعَلَ لِإِنْسَانٍ فِي رَدِّ آبِقٍ) عَلَى رَدِّهِ (دِينَارًا، أَوْ) جَعَلَ (لِآخَرَ دِينَارَيْنِ، أَوْ) جَعَلَ (لِآخَرَ ثَلَاثَةَ) دَنَانِيرَ؛ فَإِنْ رَدَّهُ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ جُعْلَهُ، وَإِنْ (رَدَّهُ)؛ أَيْ: رَدَّ الْآبِقَ الثَّلَاثَةُ (فَلِكُلِّ) وَاحِدٍ مِنْهُمْ (ثُلُثُ مَا جُعِلَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ رَدَّهُ اثْنَانِ مِنْهُمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ جُعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ نِصْفَ الْعَمَلِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمُسَمَّى، (وَ) إنْ جَعَلَ (لِوَاحِدٍ) عِوَضًا (مَعْلُومًا) كَدِينَارٍ مَثَلًا، وَجَعَلَ لِآخَرَ عِوَضًا (مَجْهُولًا) فَرَدَّاهُ مَعًا؛ (فَلِرَبِّ الْمَعْلُومِ نِصْفُهُ؛ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ عَمَلِهِ. وَإِنْ) جَعَلَ رَبُّ الْعَبْدِ الْآبِقِ مَثَلًا لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ شَيْئًا، (فَرَدَّهُ مِنْ جُوعِلَ) وَهُوَ زَيْدٌ فِي الْمِثَالِ- هُوَ (وَآخَرَانِ مَعَهُ، وَقَالَا)- أَيْ: الْآخَرَانِ-: رَدَدْنَاهُ مُعَاوَنَةً لِزَيْدٍ؛ (اسْتَحَقَّ) زَيْدٌ (كُلَّ الْجُعْلِ)، وَلَا شَيْءَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَبَرَّعَا بِعَمَلِهِمَا. (وَإِنْ قَالَا) رَدَدْنَاهُ (لِنَأْخُذَ الْعِوَضَ مِنْهُ) لِأَنْفُسِنَا؛ (فَلَا شَيْءَ لَهُمَا)؛ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ، (وَلَهُ ثُلُثُ الْجُعْلِ)؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ ثُلُثَ الْعَمَلِ، فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْجُعْلِ، قَالَ الْمُوَفَّقُ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. (وَلَوْ نَادَى غَيْرُ صَاحِبِ الضَّالَّةِ)، فَقَالَ: (مَنْ رَدَّهَا فَلَهُ دِينَارٌ) فَرَدَّهَا إنْسَانٌ (فَالدِّينَارُ عَلَى الْمُنَادِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَمِنَ الْعِوَضَ) فَالْتَزَمَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، (لَا إنْ قَالَ) الْمُنَادِي غَيْرَ رَبِّ الضَّالَّةِ فِي النِّدَاءِ: (قَالَ فُلَانٌ مَنْ رَدَّهَا)- أَيْ: ضَالَّتِي- فَلَهُ دِينَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ رَبُّهَا قَالَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ الْمُنَادِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْعِوَضَ، وَالرَّادُّ مُقَصِّرٌ بِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ. (وَيَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ) فِي الْجَعَالَةِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: مَنْ خَاطَ هَذَا الثَّوْبَ فِي يَوْمٍ فَلَهُ كَذَا، فَإِنَّ أَتَى بِهِ فِيهَا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فِيهَا؛ فَلَا شَيْءَ لَهُ. (وَلَوْ قَالَ مَنْ دَاوَى لِي هَذَا) الْجَرِيحَ (حَتَّى يَبْرَأَ) مِنْ جُرْحِهِ، أَوْ دَاوَى هَذَا الْمَرِيضَ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ دَاوَى هَذَا الْأَرْمَدَ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ رَمَدِهِ فَلَهُ كَذَا؛ (لَمْ يَصِحَّ) الْعَقْدُ فِيهَا (مُطْلَقًا)- أَيْ: لَا إجَارَةً وَلَا جَعَالَةً- صَحَّحَهُ فِي الْإِنْصَافِ وَغَيْرِهِ.
(وَ) إنْ قَالَ رَبُّ آبِقٍ (مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا، وَهُوَ)- أَيْ: الْمُسَمَّى أَكْثَرُ مِنْ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَرَدَّهُ إنْسَانٌ؛ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ بِعَمَلِ مَا جُوعِلَ عَلَيْهِ؛ كَرَدِّ اللُّقَطَةِ وَبِنَاءِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى الْجَاعِلِ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى (أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ أَوْ) أَقَلَّ مِنْ (اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا) فِضَّةً (اللَّذَيْنِ قَدَّرَهُمَا الشَّارِعُ لِمَنْ رَدَّ آبِقًا)- أَيْ: الرَّادِّ (فَلَهُ) بِرَدِّ الْآبِقِ (الْجُعْلُ فَقَطْ عَمَلًا بِالشَّرْطِ)، قَدَّمَ فِي الْفُرُوعِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْمُسَمَّى.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ غَيْرَهُ، (خِلَافًا لَهُ)- أَيْ: لِلْإِقْنَاعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ- أَيْ: الْمُسَمَّى- أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا؛ فَلَهُ فِي الْعَبْدِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ انْتَهَى.
(وَيَسْتَحِقُّ مَنْ) سُمِّيَ لَهُ جُعْلٌ عَلَى رَدِّ آبِقٍ وَ(رَدَّهُ مِنْ دُونِ مَسَافَةٍ مُعَيَّنَةِ الْقِسْطَ) مِنْ الْجُعْلِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ الَّذِي رَدَّهُ مِنْهُ نِصْفَ الْمَسَافَةِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَبِحِسَابِهِ، وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ مَوْضِعٍ (أَبْعَدَ) مِنْ الْبَلْدَةِ الْمُسَمَّاةِ فَلَهُ (الْمُسَمَّى فَقَطْ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِلزَّائِدِ عَلَى الْمَسَافَةِ عِوَضًا، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْئًا، وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُسَمَّى، وَمِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ؛ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَى رَدِّهِ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي عَيَّنَهُ عِوَضًا؛ فَالرَّادُّ مِنْ غَيْرِهِ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ. كَمَا لَوْ جَعَلَ رَبُّ آبِقَيْنِ فِي رَدِّ أَحَدِ عَبْدَيْهِ كَسَالِمٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَرَدَّ الْعَبْدَ الْآخَرَ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ الْمُعَيَّنَ. قَالَهُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَخَالَفَهُمْ شَارِحُهُ، فَقَالَ: قُلْتُ: بَلْ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ، وَكَذَا الَّتِي قَبْلَهَا، كَذَا قَالَ.
(وَ) يَسْتَحِقُّ (مَنْ رَدَّ أَحَدَ آبِقَيْنِ) جُوعِلَ عَلَى رَدِّهِمَا (نِصْفَهُ)- أَيْ: نِصْفَ الْجُعْلِ- عَنْ رَدِّهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَدَّ نِصْفَهُمَا، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا أَمْ اخْتَلَفَتْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ خَاطَ لِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ فَلَهُ كَذَا، فَخَاطَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْجُعْلِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الشَّيْئَيْنِ مَعًا؛ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّهُمَا كِلَيْهِمَا فَلَهُ كَذَا. (وَبَعْدَ شُرُوعِ عَامِلٍ) فِي الْعَمَلِ (إنْ فَسَخَ جَاعِلٌ فَعَلَيْهِ) لِعَامِلٍ (أُجْرَةُ) مِثْلُ (عَمَلِهِ)؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِعِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَكَانَ لَهُ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَمَا عَمِلَهُ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. وَإِنْ زَادَ الْجَاعِلُ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْجُعْلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ؛ جَازَ وَعَمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَجَازَ فِيهِ ذَلِكَ؛ كَالْمُضَارَبَةِ. (وَإِنْ فَسَخَ عَامِلٌ) قَبْلَ تَمَامِ عَمَلِهِ (فَلَا شَيْءَ لَهُ)؛ لِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يُوَفِّ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ. (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلَ الْجَعَالَةِ)- أَيْ: التَّسْمِيَةِ- بِأَنْ أَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا؛ فَالْقَوْلُ (قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ) مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا (فِي قَدْرِهِ)- أَيْ: الْجُعْلِ- (أَوْ) اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ (الْمَسَافَةِ) بِأَنْ قَالَ الْجَاعِلُ: جَعَلْتُ ذَلِكَ لِمَنْ رَدَّهُ مِنْ عَشَرَةِ أَمْيَالٍ، فَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ مِنْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ الْجُعْلُ فِي رَدِّهِ، فَقَالَ: رَدَدْت الْعَبْدَ الَّذِي جَعَلْتَ إلَيَّ الْجُعْلَ فِيهِ، فَأَنْكَرَ الْجَاعِلُ، وَقَالَ: بَلْ شَرَطْته فِي الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ تَرُدَّهُ؛ فَالْقَوْلُ (قَوْلُ جَاعِلٍ)؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْعَامِلُ زِيَادَةً عَمَّا يَعْتَرِفُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهُ. (وَإِنْ عَمِلَ) شَخْصٌ (وَلَوْ الْمُعَدُّ لِأَخْذِ أُجْرَةٍ) عَلَى عَمَلِهِ كَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارَى وَالْحَجَّامِ وَالْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ وَالدَّلَّالِ وَالنَّقَّادِ، وَالْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَشَبَهِهِمْ مِمَّنْ يَرْصُدُ نَفْسَهُ لِلتَّكَسُّبِ بِالْعَمَلِ، وَأَذِنَ لَهُ الْمَعْمُولُ لَهُ فِي الْعَمَلِ؛ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِأَخْذِ الْأُجْرَةِ، وَعَمِلَ (لِغَيْرِهِ عَمَلًا بِلَا إذْنٍ أَوْ بِلَا جُعْلٍ) مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ؛ (فَلَا شَيْءَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَنْفَعَتَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، وَلِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ (إلَّا فِي تَخْلِيصِ مَالِ غَيْرِهِ وَلَوْ) كَانَ مَالُ غَيْرِهِ (قِنًّا مِنْ بَحْرِ) أَوْ فَمِ سَبُعٍ (أَوْ فَلَاةٍ) يُظَنُّ هَلَاكُهُ فِي تَرْكِهِ؛ فَلَهُ (أَجْرُ مِثْلِهِ)، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى هَلَاكَهُ وَتَلَفَهُ عَلَى مَالِكِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ. وَكَذَا لَوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ فَخَلَّصَ قَوْمٌ الْأَمْوَالَ مِنْ الْبَحْرِ فَتَجِبُ لَهُمْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَثًّا وَتَرْغِيبًا فِي إنْقَاذِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْمَهْلَكَةِ؛ فَإِنَّ الْغَوَّاصَ إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ غَرَّرَ بِنَفْسِهِ، وَبَادَرَ إلَى التَّخْلِيصِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، وَإِلَّا فِي (رَدِّ آبِقٍ مِنْ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ وَأُمِّ وَلَدٍ إنْ لَمْ يَكُنْ) الرَّادُّ (الْإِمَامَ)، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الرَّادَّ (أَوْ نَائِبَهُ)؛ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِانْتِصَابِهِ لِلْمَصَالِحِ، وَلَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ الرَّادُّ غَيْرَهُمَا؛ فَلَهُ (مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ) دِينَارًا وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا هَذَا الْمَذْهَبُ.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَشَرْحِ الْحَارِثِيِّ وَغَيْرِهِمَا: وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّادُّ زَوْجًا أَوْ ذَا رَحِمٍ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مُرْسَلًا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي رَدِّ الْآبِقِ إذَا جَاءَ بِهِ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ دِينَارًا». وَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَثُّ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَصِيَانَةِ الْعَبْدِ عَمَّا يُخَافُ مِنْ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ، (سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ دَاخِلِ الْمِصْرِ أَوْ خَارِجِهِ)، قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ بَعُدَتْ، (مَا لَمْ يَمُتْ سَيِّدُ مُدَبَّرٍ) خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ (وَأُمِّ وَلَدٍ قَبْلَ وُصُولٍ) إلَيْهِ (فَيُعْتَقَا؛ فَلَا شَيْءَ لَهُ) أَيْ: لِرَادِّهِمَا فِي نَظِيرِ الرَّدِّ- لِأَنَّ الْعَمَلَ لَمْ يَتِمَّ؛ إذْ الْعَتِيقُ لَا يُسَمَّى آبِقًا، (أَوْ يَهْرُبُ) الْآبِقُ مِنْ وَاجِدِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا. (وَيَأْخُذُ) رَادُّ الْآبِقِ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ تَرِكَتِهِ (مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَوْ) مَا أَنْفَقَ (عَلَى دَابَّةٍ) يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا (فِي قُوتٍ) وَعَلَفٍ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَمِثْلُهُ كِسْوَةٌ وَأُجْرَةُ حَمْلٍ اُحْتِيجَ إلَيْهِمَا، لَا دُهْنٌ وَحَلْوَى، (وَلَوْ هَرَبَ) أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ جُعْلًا لِرَدِّهِ مِنْ غَيْرِ بَلَدٍ سَمَّاهُ، (أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ) الْمُنْفِقُ (مَالِكًا) فِي الْإِنْفَاقِ (مَعَ قُدْرَةٍ) عَلَى اسْتِئْذَانِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا؛ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ؛ وَحَثًّا عَلَى صَوْنِ ذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ. (وَلَا) يَجُوزُ لِوَاجِدِ آبِقٍ أَنْ (يَسْتَخْدِمَهُ بَدَلَ نَفَقَتِهِ) عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَأَوْلَى. (وَيُؤْخَذُ جُعْلٌ وَنَفَقَةٌ مِنْ تَرِكَةِ) سَيِّدِ (مَيِّتٍ)؛ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ، (مَا لَمْ) يَنْوِ أَنْ (يَتَبَرَّعَ) بِالْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنْ نَوَى التَّبَرُّعَ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ نَوَى بِالْعَمَلِ التَّبَرُّعَ لَا أُجْرَةَ لَهُ، وَمُقْتَضَاهُ لَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ. (وَيَجُوزُ ذَبْحُ) حَيَوَانٍ (مَأْكُولٍ) إذَا (خِيفَ مَوْتُهُ) صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَشَرْحِ ابْنِ رَزِينٍ وَغَيْرِهِمْ. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ (يَجِبُ) عَلَيْهِ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ؛ اسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ التَّلَفِ، وَحِفْظًا لِمَالِيَّتِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَكَذَا بَيْعُ مَا)- أَيْ: مَتَاعٍ أَوْ حَيَوَانٍ- (اسْتَنْقَذَهُ) مِنْ مَهْلَكَةٍ (خَوْفَ تَلَفِهِ).
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَإِنْ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الْعَرَبِ- أَيْ: قُطَّاعِ الطَّرِيقِ- فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إنَّ الْفَرَسَ مَرِضَ بِحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ؛ جَازَ لِلْأَخْذِ بَيْعُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَبِيعَهُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا، وَيَحْفَظُ الثَّمَنَ لِرَبِّهِ انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ وَكَذَا) يَجُوزُ بَيْعُ (نَحْوِ وَدِيعَةٍ) كَلُقَطَةٍ (وَرَهْنٍ) خِيفَ تَلَفُهُ، وَيَحْفَظُ ثَمَنُهُ لِرَبِّهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ) حَيَوَانٌ مَأْكُولٌ (بِذَبْحٍ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الْعَمَلُ فِي مَالِ الْغَيْرِ إنْقَاذًا لَهُ مِنْ التَّلَفِ) الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ؛ (جَازَ) بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ إنْ حَصَلَ بِهِ نَقْصٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ. (فَلَوْ وَقَعَ حَرِيقٌ بِدَارٍ، فَهَدَمَهَا غَيْرُ رَبِّهَا بِلَا إذْنٍ عَلَى النَّارِ خَوْفَ سَرَيَانٍ أَوْ هَدَمَ قَرِيبًا مِنْهَا خَوْفَ تَعَدِّيهَا) وَعُتُوِّهَا؛ (لَمْ يَضْمَنْ). ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: (وَكَذَا لَوْ رَأَى السَّيْلَ يَقْصِدُ) الدَّارَ (الْمُؤَجَّرَةَ)، فَبَادَرَ، (وَهَدَمَ الْحَائِطَ لِيَخْرُجَ السَّيْلُ)، وَلَا يَهْدِمَ الدَّارَ؛ كَانَ مُحْسِنًا، وَلَا يَضْمَنُ. انْتَهَى.
(وَالْآبِقُ) وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِ الضَّائِعِ (بِيَدِ آخِذِهِ أَمَانَةٌ)، إنْ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ رَدِّهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِأَخْذِهِ، (وَمَنْ ادَّعَاهُ)- أَيْ: الْآبِقَ- أَنَّهُ مِلْكُهُ بِلَا بَيِّنَةٍ، (فَصَدَّقَهُ الْآبِقُ الْمُكَلَّفُ؛ أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّ أَخْذُهُ بِوَصْفِهِ إيَّاهُ فَتَصْدِيقُهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُ الصَّغِيرِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ، (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) وَاجِدُ الْآبِقِ (سَيِّدَهُ؛ دَفَعَهُ لِنَائِبِ إمَامٍ) فَيَحْفَظُهُ لِرَبِّهِ إلَى أَنْ يَجِدَهُ، (وَلِنَائِبِ إمَامٍ بَيْعُهُ لِمَصْلَحَةٍ) رَآهَا فِي بَيْعِهِ، وَيَحْفَظُ ثَمَنَهُ؛ لِانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ. (فَلَوْ قَالَ سَيِّدُهُ بَعْدَ بَيْعٍ)؛ أَيْ: بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ وَاجِدُهُ: (كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ) قَبْلَ صُدُورِ الْبَيْعِ؛ (عُمِلَ بِهِ)- أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا- (وَبَطَلَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُنَافِيهِ، وَلَيْسَ لِوَاجِدِ الْعَبْدِ بَيْعُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتَحَفَّظُ بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ كَضَوَالِّ الْإِبِلِ، لَكِنْ جَازَ الْتِقَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ لِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَارْتِدَادُهُ وَاشْتِغَالُهُ بِالْفَسَادِ. تَكْمِيلٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْإِجَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْجَعَالَةِ؛ فَيَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ لِعَامِلٍ نَفَقَتَهُ وَكِسْوَتَهُ؛ كَاسْتِئْجَارِهِ بِذَلِكَ مُفْرَدًا أَوْ مَعَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، وَتَزِيدُ الْجَعَالَةُ بِجُعْلٍ مَجْهُولٍ مِنْ مَالِ حَرْبِيٍّ، وَكُلُّ مَا جَازَ عَلَيْهِ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ جَازَ عَلَيْهِ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي الْجَعَالَةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ كَالْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.

.بَابُ اللُّقَطَةِ:

قَالَ فِي الْقَامُوسِ: اللُّقَطَةُ مُحَرَّكَةٌ وَكَحُزَمَةٍ وَهُمَزَةٍ، وَتَمَامُهُ مَا اُلْتُقِطَ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ مُحَرَّكَةٌ- أَيْ: مَفْتُوحَةُ اللَّامِ وَالْقَافِ- وَحُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ اللُّقَطَةُ- بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ- الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطُ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الشَّرْحِ اسْمُ الْمُلْتَقِطِ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ عَلَى فَعْلَةٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْفَاعِلِ كَالضَّحْكَةِ وَالصَّرْعَةِ وَالْهَمْزَةِ وَاللَّمْزَةِ، وَاللُّقْطَةُ: بِسُكُونِ الْقَافِ الْمَلْقُوطُ مِثْلُ الضُّحْكَةِ الَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ، وَالْهُزْأَةِ الَّذِي يُهْزَأُ بِهِ. وَعُرْفًا: (مَالٌ) كَنَفَقَةٍ وَمَتَاعٍ (أَوْ مُخْتَصٌّ) كَخَمْرَةِ الْخَلَّالِ (ضَائِعٌ) كَالسَّاقِطِ مِنْ مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ (أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ) كَمَتْرُوكٍ قَصْدًا لِمَعْنًى وَمَدْفُونٍ مَنْسِيٍّ (لِغَيْرِ حَرْبِيٍّ)؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِحَرْبِيٍّ مَالِكُهَا وَاجِدُهَا؛ كَمَا لَوْ ضَلَّ الْحَرْبِيُّ الطَّرِيقَ، فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِآخِذِهِ وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَقَالَ مَالَكَ وَلَهَا؛ دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْوِكَاءُ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَالُ فِي الْخَاصَّةِ فِي الْخِرْقَةِ، وَالْعِفَاصُ الْوِعَاءُ الَّذِي هِيَ فِيهِ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْأَصْلُ أَنَّهُ الْجِلْدُ الَّذِي يُلْبَسُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ. وَقَوْلُهُ مَعَهَا حِذَاءَهَا يَعْنِي خُفَّهَا؛ لِأَنَّ لِقُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْحِذَاءِ. وَسِقَاءَهَا بَطْنَهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ فِيهِ كَثِيرًا فَيَبْقَى مَعَهَا يَمْنَعُهَا الْعَطَشَ، وَالضَّالَّةُ اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ اللُّقَطَةِ، وَالْجَمْعُ ضَوَالُّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الْهَوَامِيُّ وَالْهَوَامِلُ. قَالَهُ الشَّارِحُ. (فَمَنْ أُخِذَ مَتَاعُهُ) فِي نَحْوِ حَمَّامٍ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ مَدَاسٍ وَنَحْوِهِ، (وَتُرِكَ)- بِبِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ لِلْمَجْهُولِ- (بَدَلُهُ)- أَيْ: شَيْءٌ مُتَمَوَّلٌ غَيْرُهُ- فَالْمَتْرُوكُ (كَلُقَطَةٍ). نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ بُخْتَانَ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَمَنْ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ مِنْ الْحَمَّامِ، وَوَجَدَ غَيْرَهَا؛ لَمْ يَأْخُذْهَا، فَإِنْ أَخَذَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَارِقَ الثِّيَابِ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهَا مُعَاوَضَةٌ تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ ثِيَابِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَلَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ، (فَيُعَرِّفُهُ) كَاللُّقَطَةِ. انْتَهَى.
(وَيَأْخُذُ) الْمَأْخُوذُ مَتَاعُهُ (حَقَّهُ مِنْهُ) أَيْ: الْمَتْرُوكِ بَدَلَ مَتَاعِهِ- (بَعْدَ تَعْرِيفِهِ) عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِهِ إلَى حَاكِمٍ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهَذَا أَقْوَى عَلَى أَصْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ فِيهَا نَفْعًا لِمَنْ سُرِقَتْ ثِيَابُهُ بِحُصُولِ عِوَضٍ عَنْهَا؛ وَنَفْعًا لِلْآخَرِ إنْ كَانَ سَارِقًا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِنْ الْإِثْمِ؛ وَحِفْظًا لِهَذِهِ الثِّيَابِ عَنْ الضَّيَاعِ، فَلَوْ كَانَتْ الثِّيَابُ الْمَتْرُوكَةُ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ الْمَأْخُوذَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِقَدْرِ قِيمَةِ ثِيَابِهِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ فَاضِلٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَمْ يَرْضَ صَاحِبُهُ بِتَرْكِهَا عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ، (وَيَتَصَدَّقُ بِبَاقٍ) إنْ أَحَبَّ، (أَوْ يَدْفَعُهُ)- أَيْ: الْبَاقِيَ- (لِحَاكِمٍ) لِيَبْرَأَ مِنْ عُهْدَتِهِ. (وَصَوَّبَ فِي الْإِنْصَافِ ) وُجُوبَ التَّعْرِيفِ (إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي السَّرِقَةَ)؛ بِأَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ أَوْ مَدَاسُهُ خَيْرًا مِنْ الْمَتْرُوكَةِ، وَهِيَ مِمَّا لَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْأَخْذِ بِثِيَابِهِ وَمَدَاسِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا جُعِلَ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ عَنْ رَبِّهِ؛ لِيَعْلَمَ بِهِ وَيَأْخُذَهُ، وَتَارِكُ هَذِهِ عَالِمٌ بِهَا رَاضٍ بِبَدَلِهَا عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ، وَلَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ لَهُ؛ فَلَا يَحْصُلُ مِنْ تَعْرِيفِهِ فَائِدَةٌ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ. انْتَهَى.
لَكِنَّ الْأَوَّلَ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ.

.[أَقْسَامُ اللُّقَطَةِ]:

(وَهِيَ)- أَيْ: اللُّقَطَةُ- (ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ):

.[الْقِسْمُ الأولُ: مَا لَا تَتْبَعُهُ هِمَّةُ أَوْسَاطِ النَّاسِ]:

(أَحَدُهَا: مَا لَا تَتْبَعُهُ هِمَّةُ أَوْسَاطِ النَّاسِ) يَعْنِي مَا لَا يُتَّهَمُونَ فِي طَلَبِهِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْهِمَّةُ-بِالْكَسْرِ وَتُفْتَحُ- مَا هُمَّ بِهِ لِيُفْعَلَ (كَسَوْطٍ) مَا يُضْرَبُ بِهِ، هُوَ فَوْقَ الْقَضِيبِ وَدُونَ الْعِصِيِّ (وَشِسْعٍ) أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ (وَرَغِيفٍ) وَكِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ (وَعَصًا)، وَكُلُّ مَا لَا خَطَرَ لَهُ كَخِرْقَةٍ وَحَبْلٍ لَا تَتْبَعُهَا الْهِمَّةُ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ صَدَقَةَ أَنَّهُ يُعَرِّفُ الدِّرْهَمَ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَجِبُ تَعْرِيفُ الدَّانَقِ، وَحَمَلَهُ فِي التَّلْخِيصِ عَلَى دَانِقِ الذَّهَبِ؛ نَظَرًا لِعُرْفِ الْعِرَاقِ، وَمَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ ذَلِكَ، (فَيُمْلَكُ بِأَخْذٍ)، وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِصِيِّ وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (وَلَا يَلْزَمُ تَعْرِيفُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحَاتِ، (وَالْأَفْضَلُ) لِوَاجِدِهِ (التَّصَدُّقُ بِهِ). ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَيْضًا (بَدَلُهُ)- أَيْ: بَدَلُ مَا وَجَدَهُ- مِمَّا لَا تَتْبَعُهُ الْهِمَّةُ (مَعَ تَلَفِهِ).
قَالَ فِي الشَّرْحِ: إذَا الْتَقَطَهُ إنْسَانٌ، وَانْتَفَعَ بِهِ وَتَلِفَ؛ فَلَا ضَمَانَ (إنْ وَجَدَ رَبَّهُ) الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَاقِطَهُ مَلَكَهُ بِأَخْذِهِ. (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ مَا الْتَقَطَهُ مِمَّا لَا تَتْبَعُهُ الْهِمَّةُ مَوْجُودًا، أَوْ وَجَدَ رَبَّهُ؛ (لَزِمَهُ)- أَيْ: الْمُلْتَقِطَ- (دَفْعُهُ)- أَيْ: الْمُلْتَقَطَ (لَهُ)، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْبِيرُهُمْ بِالْبَدَلِ؛ إذْ لَا يَعْدِلُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَلِفَ الْمُبْدَلِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُوَضِّحُ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يَلْزَمُ دَفْعُ عَيْنِهِ، (وَكَذَا)؛ أَيْ: وَكَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِ آخِذِهِ يَمْلِكُهُ (لَوْ لَقِيَ كَنَّاسٌ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ) كَنَخَّالٍ وَمَقْلَشٍ (قِطَعًا صِغَارًا مُتَفَرِّقَةً) مِنْ الْفِضَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِأَخْذِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا إنْ وَجَدَ بَدَلَهَا- (وَلَوْ كَثُرَتْ) بِضَمِّ بَعْضِهَا- لِأَنَّ تَفَرُّقَهَا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ أَرْبَابِهَا. (وَمَنْ تَرَكَ دَابَّةً لَا عَبْدًا أَوْ مَتَاعًا بِمَهْلَكَةٍ أَوْ تُرِكَ إيَاسٌ لِانْقِطَاعِهَا) بِعَجْزِهَا عَنْ الْمَشْيِ (أَوْ عَجْزِهِ)- أَيْ: مَالِكِهَا- (عَنْ عَلَفِهَا) بِأَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَعْلِفُهَا فَتَرَكَهَا؛ (مَلَكَهَا آخِذُهَا)، لِحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ مَرْفُوعًا: «مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَزَ عَنْهَا أَهْلُهَا فَسَيَّبُوهَا، فَأَخَذَهَا فَأَحْيَاهَا؛ فَهِيَ لَهُ» قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَعْنِي لِلشَّعْبِيِّ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ.، وَفِي الْقَوْلِ بِمِلْكِهَا إحْيَاؤُهَا وَإِنْقَاذُهَا؛ وَلِأَنَّهَا تُرِكَتْ رَغْبَةً عَنْهَا، أَشْبَهَ سَائِرَ مَا يُتْرَكُ رَغْبَةً عَنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا لِيَرْجِعَ إلَيْهَا أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ، فَلَا يَمْلِكُهَا آخِذُهَا. وَتَقَدَّمَ آخِرُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مُوَضَّحًا. (وَكَذَا مَا يَلْقَى) مِنْ سَفِينَةٍ (فِي الْبَحْرِ خَوْفَ غَرَقٍ) فَيَمْلِكُهُ آخِذُهُ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ أَلْقَاهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَنْبُوذَ رَغْبَةً عَنْهُ. قَطَعَ بِهِ فِي التَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا، (خِلَافًا لَهُ)- أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ- حَيْثُ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِيَرْجِعَ إلَيْهَا، أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ؛ أَيْ: فَلَا يَمْلِكُهَا آخِذُهَا. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا مَا أُلْقِيَ خَوْفَ الْغَرَقِ؛ أَيْ: فَلَا يُمْلَكُ، فَجُعِلَ حُكْمُ مَا أُلْقِيَ خَوْفَ الْغَرَقِ كَحُكْمِ مَا تَرَكَهَا؛ لِيَرْجِعَ إلَيْهَا، وَكَالَتِي ضَلَّتْ مِنْهُ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُهُ آخِذُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَهُ (كـَ) حُكْمِ (مُلْقًى رَغْبَةً عَنْهُ) فِي مَحَلٍّ يَتْلَفُ بِتَرْكِهِ فِيهِ.

.[الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ وَلَا يُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ]:

الْقِسْمُ (الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ اللُّقَطَةِ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ وَلَا يُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ: (الضَّوَالُّ)- جَمْعُ ضَالٍّ- اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَتَقَدَّمَ، (الَّتِي تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ كَثَعْلَبٍ وَذِئْبٍ) وَابْنِ آوَى وَأَسَدٍ صَغِيرٍ، وَامْتِنَاعُهَا إمَّا بِكِبَرِ جُثَّتِهَا (كَإِبِلٍ وَبَقَرٍ وَخَيْلٍ وَبِغَالٍ)، وَإِمَّا؛ لِسُرْعَةِ عَدْوِهَا (كَحُمُرٍ وَظِبَاءٍ)، وَإِمَّا لِطَيْرٍ (كَطَيْرٍ مُمْتَنِعٍ) بِطَيَرَانِهِ (وَ) إمَّا بِنَابِهِ (كَفَهْدٍ مُعَلَّمٍ أَوْ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيمِ)، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمَالٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ (وَنَحْوِهِ)؛ أَيْ: نَحْوِ الْمُتَقَدِّمِ كَفِيلٍ وَزَرَافَةٍ وَنَعَامَةٍ وَقِرْدٍ وَهِرٍّ وَقِنٍّ كَبِيرٍ، فَهَذَا الْقِسْمُ (غَيْرُ) الْقِنِّ (الْآبِقِ يَحْرُمُ الْتِقَاطُهُ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ: مَالَكَ وَلَهَا دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا». وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ، وَلَمَّا رَوَى مُنْذِرُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي جَرِيرٍ بِالْبَوَارِيجِ فِي السَّوَادِ فَرَاحَتْ الْبَقَرَةُ، فَرَأَى بَقَرَةً أَنْكَرَهَا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْبَقَرَةُ؟ قَالُوا: بَقَرَةٌ لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ، فَأَمَرَ بِهَا، فَطُرِدَتْ حَتَّى تَوَارَتْ: ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ: لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا الضَّالُّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ- أَيْ: مُخْطِئٌ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ الِالْتِقَاطِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ أَخْذِهِ كَغَيْرِ الضَّالَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْأَخْذُ؛ لِحِفْظِ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ مَحْفُوظًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ، وَأَمَّا الْآبِقُ فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهُ؛ صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَارْتِدَادِهِ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، وَتَقَدَّمَ. وَهَذَا الْقِسْمُ (لَا يُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ؛ لِعَدَمِ إذْنِ الْمَالِكِ وَعَدَمِ إذْنِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ؛ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ زَمَنِ الْأَمْنِ وَالْفَسَادِ، وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ (لِإِمَامٍ وَنَائِبِهِ أَخَذُهُ؛ لِيَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ لَا) عَلَى أَنَّهُ (لُقَطَةٌ)؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي حِفْظِ مَالِ الْغَائِبِ، وَفِي أَخْذِ هَذِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ مَصْلَحَةٌ لِمَالِكِهَا بِصِيَانَتِهَا، (وَلَا يَلْزَمُهُ)- أَيْ: الْإِمَامَ- أَوْ نَائِبَهُ (تَعْرِيفُهُ) مَا أَخَذَهُ؛ لِيَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ لِيُعَرِّفَ الضَّوَالَّ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ مِنْ الْإِمَامِ حِفْظُ الضَّوَالِّ؛ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَالَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِيءُ إلَى مَوْضِعِ الضَّوَالِّ، فَمَنْ عَرَفَ مَالَهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ. (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ)؛ أَيْ: الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، (بِوَصْفٍ)؛ أَيْ: لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الضَّالَّةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ، حِينَ كَانَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِهَا دُونَ غَيْرِهَا؛ فَلَمْ يَكْفِ ذَلِكَ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ (بَيِّنَةٌ)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا؛ لِظُهُورِهَا لِلنَّاسِ، وَمَعْرِفَةِ خُلَطَائِهِ وَجِيرَانِهِ بِمِلْكِهِ إيَّاهَا. وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ الضَّوَالِّ؛ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلُ عَلَيْهَا وَسْمًا بِأَنَّهَا ضَالَّةٌ؛ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ حِمًى تَرَكَهَا تَرْعَى فِيهَا، إنْ رَأَى ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهَا، وَحِفْظِ ثَمَنِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمًى؛ بَاعَهَا بَعْدَ أَنْ يُحَلِّيَهَا، وَيَحْفَظَ صِفَاتِهَا، وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا يُفْضِي إلَى أَنْ تَأْكُلَ جَمِيعَ ثَمَنِهَا، وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ضَمِنَهَا، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهَا. (وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ صَيُودٍ مُتَوَحِّشَةٍ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَتْ رَجَعَتْ لِلصَّحْرَاءِ بِشَرْطِ عَجْزٍ) عَنْهَا، لِأَنَّ تَرْكَهَا إذَنْ أَضْيَعُ لَهَا مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالْمَقْصُودُ حِفْظُهَا لِصَاحِبِهَا لَا حِفْظُهَا فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ حِفْظَهَا فِي نَفْسِهَا لَمَا جَازَ الْتِقَاطُ الْأَثْمَانِ؛ فَإِنَّ الدِّينَارَ دِينَارٌ حَيْثُمَا كَانَ، وَلَا يَمْلِكُهَا بِالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِيهَا. (وَلَا يَمْلِكُهَا) آخِذُهَا (بِتَعْرِيفٍ)، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَحْفَظُهَا لِرَبِّهَا، فَهُوَ كَالْوَدِيعِ. (وَأَحْجَارُ طَوَاحِينَ)- مُبْتَدَأٌ- (وَقُدُورٌ ضَخْمَةٌ وَأَخْشَابٌ كَبِيرَةٌ) وَقَوْلُهُ: (كَإِبِلٍ)- خَبَرُهُ- أَيْ: فَلَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَضِيعُ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلَا تَبْرَحُ مِنْ مَكَانِهَا، فَهِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ مِنْ الضَّوَالِّ فِي الْجُمْلَةِ لِلتَّلَفِ، إمَّا بِسَبُعٍ أَوْ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ. (وَمَا حَرُمَ الْتِقَاطُهُ ضَمِنَهُ آخِذُهُ، إنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ كَغَاصِبٍ)، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَآخِذُهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِقَاطِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْتِقَاطَ ذَلِكَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ، (لَا إنْ تَبِعَ) شَيْءٌ مِنْ الضَّوَالِّ الْمَذْكُورَةِ (دَوَابَّهُ فَطَرَدَهُ)؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، (أَوْ دَخَلَ) شَيْءٌ مِنْهَا (دَارِهِ فَأَخْرَجَهُ)؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْهُ، وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَيْهِ، (وَلَا) إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ (كَلْبًا الْتَقَطَهُ)؛ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. (وَمَنْ) الْتَقَطَ مَا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، وَ(كَتَمَهُ) عَنْ رَبِّهِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، (فَتَلِفَ)؛ فَعَلَيْهِ (قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ) لِرَبِّهِ نَصًّا؛ لِحَدِيثٍ: «فِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ غَرَامَتُهَا وَمِثْلُهَا مَعَهَا».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ: وَهَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُرَدُّ. سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ (وَيَزُولُ ضَمَانُهُ)؛ أَيْ: ضَمَانُ مَا حَرُمَ الْتِقَاطُهُ عَمَّنْ أَخَذَهُ (بِدَفْعِهِ لِإِمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ)؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي ضَوَالِّ النَّاسِ، فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَالِكِ (أَوْ رَدَّهُ)؛ أَيْ: الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَلِكَ، (إلَى مَكَانِهِ) الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ (بِأَمْرِهِ)؛ أَيْ: الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الْقَضْبَيْ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلِ وَجَدَ بَعِيرًا: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِرَدِّهِ، كَأَخْذِهِ مِنْهُ. وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إنْ رَدَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، فَتَلِفَ؛ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا، فَإِذَا ضَيَّعَهَا؛ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا؛ كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ.

.(فَرْعٌ): [فيمن وَجَدَ مَا حَرُمَ الْتِقَاطُهُ مِنْ الضَّوَالِّ الْمُمْتَنِعَةِ بِنَفْسِهَا]:

قَالَ فِي الْمُغْنِي: (وَلَوْ وَجَدَ مَا حَرُمَ الْتِقَاطُهُ) مِنْ الضَّوَالِّ الْمُمْتَنِعَةِ بِنَفْسِهَا، (بِمَهْلَكَةٍ كَأَرْضٍ مَسْبَعَةٍ)، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْأَسَدَ يَفْتَرِسُهَا إنْ تُرِكَتْ بِهَا، (أَوْ) وُجِدَ ذَلِكَ (قَرِيبًا مِنْ دَارِ حَرْبٍ)، يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهَا (أَوْ) وَجَدَهُ (بِمَوْضِعٍ يَسْتَحِلُّ أَهْلُهُ أَمْوَالَنَا)، كَوَادِي التَّيْمِ، أَوْ وَجَدَهُ (بِبَرِّيَّةٍ) لَا مَاءَ فِيهَا وَلَا مَرْعًى، (فَالْأَوْلَى جَوَازُ أَخْذِهِ)؛ أَيْ: الْمُحَرَّمِ الْتِقَاطُهُ (لِلْحِفْظِ، اسْتِنْقَاذًا) لَهُ مِنْ الْهَلَاكِ. لَا لُقَطَةً، لِمَا تَقَدَّمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ تَخْلِيصَهُ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ، فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، سَلَّمَهُ لِنَائِبِ الْإِمَامِ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ بِالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ. انْتَهَى.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَجَزَمَ بِهِ فِي تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ (وَ) قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قُلْتُ: (لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ)، أَيْ: الْأَخْذِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، (إذَنْ)؛ أَيْ: وَالْحَالَةُ هَذِهِ، (لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ) انْتَهَى.

.[الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ وَيُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ]:

الْقِسْمُ (الثَّالِثُ) مَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ وَيُمْلَكُ بِتَعْرِيفِهِ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا، (مَا عَدَاهُمَا)؛ أَيْ: مَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، (مِنْ ثَمَنٍ)- أَيْ: نَقْدٍ- (وَمَتَاعٍ) كَثِيَابٍ وَفُرُشٍ وَأَوَانِي وَآلَاتِ الْحَرْثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ؛ (كَغَنَمٍ وَفُصْلَانٍ)- بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا-، جَمْعُ فَصِيلٍ، وَهُوَ وَلَدٌ لِلنَّاقَةِ، إذَا فُصِلَ عَنْ أُمِّهِ (وَعَجَاجِيلُ)- جَمْعُ عِجْلٍ، وَهُوَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ وَجِحَاشٍ وَحَمِيرٍ (وَأَفْلَاءٍ)- بِالْمَدِّ: جَمْعُ فُلُوٍّ،- بِوَزْنِ سَحْرٍ، وَجِرْوٍ، وَعَدْوٍ، وَسَمْوٍ، وَهُوَ الْجَحْشُ وَالْمُهْرُ إذَا فُطِمَا، أَوْ بَلَغَ السَّنَةَ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْإِوَزُّ وَالدَّجَاجُ وَنَحْوُهَا، كَالْخَشَبَةِ الصَّغِيرَةِ، وَقِطْعَةِ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَالْكُتُبِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَالْمَرِيضُ مِنْ كِبَارِ الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا كَالصَّغِيرِ، سَوَاءٌ وُجِدَ بِمِصْرٍ أَوْ مَهْلَكَةٍ، لَمْ يَنْبِذْهُ رَبُّهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنْ نَبَذَهُ كَذَلِكَ مَلَكَهُ آخِذُهُ؛ وَتَقَدَّمَ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. (وَقِنٍّ صَغِيرٍ)، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ كَالشَّاةِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ)، كَالزِّقِّ مِنْ الدُّهْنِ أَوْ الْعَسَلِ، أَوْ الْغِرَارَةِ مِنْ الْحَبِّ؛ (فَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَا يَأْمَنُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا)- أَيْ: اللُّقَطَةِ (أَخْذُهَا) لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ مَالِ غَيْرِهِ، فَحَرُمَ كَإِتْلَافِهِ، وَكَمَا لَوْ نَوَى تَمَلُّكَهَا فِي الْحَالِ، أَوْ كِتْمَانَهَا. (وَكَعَاجِزٍ عَنْ تَعْرِيفِهَا)، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا، وَلَوْ بِنِيَّةِ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ وُصُولِهَا إلَى رَبِّهَا، (وَيَضْمَنُهَا بِهِ) أَيْ: بِأَخْذِهَا إنْ تَلِفَتْ (مُطْلَقًا)، سَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا بِتَفْرِيطٍ، أَوْ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ، فَضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ. (وَلَا يَمْلِكُهَا)- أَيْ: اللُّقَطَةَ-
(وَلَوْ عَرَّفَهَا)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُحَرَّمَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، بِدَلِيلِ السَّرِقَةِ؛ فَإِنْ أَخَذَهَا بِنِيَّةِ الْأَمَانَةِ، ثُمَّ (طَرَأَ لَهُ قَصْدُ الْخِيَانَةِ؛ لَمْ يَضْمَنْ) اللُّقَطَةَ إنْ تَلِفَتْ بِلَا تَفْرِيطٍ فِي الْحَوْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا. (وَإِنْ أَمِنَ نَفْسَهُ) عَلَى اللُّقَطَةِ، (وَقَوِيَ عَلَى تَعْرِيفِهَا؛ فَلَهُ أَخْذُهَا)- أَيْ: اللُّقَطَةِ- وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي النَّقْدَيْنِ، وَقِيسَ عَلَيْهِمَا كُلُّ حَيَوَانٍ لَا يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ. (وَالْأَفْضَلُ) لِمَنْ أَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، وَقَوِيَ عَلَى تَعْرِيفِهَا، (تَرْكُهَا)- أَيْ: عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهَا- قَالَ أَحْمَدُ: الْأَفْضَلُ تَرْكُ الِالْتِقَاطِ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَلَوْ وَجَدَهَا (بِمُضِيعَةٍ)- بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ- قَالَهُ فِي الْمُطْلِعِ؛ لِأَنَّ فِي الِالْتِقَاطِ تَعْرِيضًا بِنَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ، وَتَضْيِيعَ الْوَاجِبِ مِنْ تَعْرِيفِهَا، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَسْلَمُ. (وَيَتَّجِهُ) الْأَفْضَلُ (عَكْسُهُ)- أَيْ: تَرْكِهَا، وَهُوَ أَخْذُهَا (مَعَ وُجُودِ رَبِّهَا)، قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، إنْ وَجَدَهَا بِمُضِيعَةٍ وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِفْظِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، كَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْغَرَقِ. وَلَا يَجِبُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ. وَخَرَجَ وُجُوبُهُ إذَنْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، انْتَهَى.
وَهُوَ مُتَّجِهٌ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. (وَمَنْ أَخَذَهَا)- أَيْ: اللُّقَطَةَ- (ثُمَّ رَدَّهَا بِلَا إذْنِ إمَامٍ وَنَائِبِهِ إلَى مَوْضِعهَا)؛ حَرُمَ، وَضَمِنَهَا. (أَوْ فَرَّطَ) فِيهَا وَتَلِفَتْ، (حَرُمَ، وَضَمِنَهَا)؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ؛ فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكُهَا وَالتَّفْرِيطُ فِيهَا تَضْيِيعٌ لَهَا. وَإِنْ رَدَّهَا بِأَمْرِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَالِكُهُ، وَكَذَا لَوْ الْتَقَطَهَا وَدَفَعَهَا لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ. (وَيُنْتَفَعُ بِمُبَاحٍ مِنْ كِلَابٍ، وَلَا تُعَرَّفُ) وَظَاهِرُهُ جَوَازُ الْتِقَاطِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَغَيْرِهِ، فَقَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَنْعِ، وَلَيْسَ فِي الْمَعْنَى الْمَمْنُوعَ، وَفِي أَخْذِهِ حِفْظٌ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ، أَشْبَهَ الْأَثْمَانَ، وَأَوْلَى مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مَالًا فَهُوَ أَخَفُّ. (وَيُمْلَكُ قِنٌّ صَغِيرٌ بِتَعْرِيفٍ)؛ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، صَحَّحَهُ فِي الْإِنْصَافِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ وَالْوَجِيزِ، قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَصِغَارُ الرَّقِيقِ مُطْلَقًا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى.
(خِلَافًا لَهُ)- أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ قِنٍّ صَغِيرٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُمْلَكُ بِالِالْتِقَاطِ. انْتَهَى.
(فَإِنْ) اُلْتُقِطَ صَغِيرٌ، وَ(جُهِلَ رِقُّهُ) وَحُرِّيَّتُهُ؛ فَهُوَ (حُرٌّ لَقِيطٌ)، قَالَ الْمُوَفَّقُ: لِأَنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ عَلَى حُرِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ عَلَى مَا يَأْتِي فِي اللَّقِيطِ.